سورة الحشر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


{سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)}.
التفسير:
قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
تبدأ السورة بهذا النشيد القدسي الذي ينتظم الوجود كله، في سمواته وأرضه، مسبّحا بحمد اللّه، في ولاء لعزته، وانقياد لسلطانه.
وهذا النشيد، هو تقدمة حمد وشكر للّه على ما أخذ به أهل الضلال والفساد من عقاب، فأنزلهم منازل الهون، وضرب على أيديهم الآثمة، التي طالما تطاولت على أولياء اللّه، وتصافحت على الكيد لهم، وإلحاق الضرر بهم.
فهذه نعمة عظمى تستحق من المؤمنين التسبيح بحمد اللّه، والشكر له.
وليس المؤمنون وحدهم هم الذين يحمدون اللّه ويسبحونه، ويذكرون آلاءه على ما أنزل بالمنافقين والكافرين من خزى، وهوان، وعلى ما كتب للمؤمنين من إعزاز وتأييد ونصر- بل إن كل ما في السموات والأرض يسبح بحمد اللّه، أن أحق الحق وأزهق الباطل، وأزاح هذه العلة، التي كانت قذّى في عين الوجود، وسحابة سوداء في سمائه الصافية.
هذا، وقد ورد التسبيح للّه في القرآن الكريم بالصيغ الثلاث، الدالة على أزمنة الحدث، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.
فجاء بصيغة الماضي في قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر).
وجاء بصيغة المضارع في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
(1: الجمعة) وجاء بصيغة الأمر في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}.
(1: الأعلى).
وفى هذا ما يشير إلى أن جميع آنات الزمن ولحظاته مملوءة بذكر اللّه، والتسبيح بحمده.. من عوالم الوجود في السموات والأرض جميعا.
فمن لم يسبح اختيارا، سبّح اضطرارا.. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ}.
أي أن اللّه سبحانه بعزته وحكمته، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، ومكّن للمسلمين منهم، ومن ديارهم.
والذين كفروا من أهل الكتاب هنا، هم جماعة من جماعات اليهود، التي كانت تسكن المدينة، وهم بنو النضير: الذين كان النبي- صلى اللّه عليه وسلم- حين قدم المدينة، عقد معهم عقدا، على أن يقفوا موقفا حياديّا منه ومن أصحابه، فلا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه.. وقد كانوا من هذا العقد على دخل وخيانة.
وكانوا يتربصون بالنبي والمسلمين الدوائر.. حتى إذا كانت وقعة أحد، ورأوا فيها هزيمة المسلمين، تحركت نوازع الغدر في صدورهم، فسعى كبيرهم كعب بن الأشرف إلى عقد حلف مع قريش، ضد النبي وأصحابه، وجاء إلى مكة ومعه أشراف قومه، يعرض على قريش أن يدخل معها هو وقومه بنو النضير في حلف لحرب النبي، وأنه إذا جاءت قريش إلى المدينة، وخرج النبي وأصحابه لحربهم، كان بنو النضير جيشا محاربا مع قريش، يضرب في ظهور المسلمين، على حين تضرب قريش في وجوههم.
وقد علم النبي بهذا الذي أحدثه بنو النضير، من نقض العهد، فأمر النبي بقتل كعب بن الأشرف بأمر من اللّه سبحانه، جاءه به جبريل، عملا ب قوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
(33: المائدة).
وكما كان جزاء كعب بن الأشرف- رأس الفتنة- القتل، كان جزاء قومه النفي من الأرض.
والذي تولّى قتل كعب بن الأشرف، بأمر من رسول اللّه، هو محمد بن مسلمة الأنصاري.
وقوله تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} إشارة إلى أن هذا أول إخراج لليهود من ديارهم، وأنه سيكون بعده إخراج لجماعات أخرى منهم.. وقد حدث هذا فعلا، فأخرج بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وقتل كل من بلغ الحلم منهم، وسبى النساء، والأطفال والشيوخ، ثم أخرج اليهود جميعا من الجزيرة العربية في عهد عمر بن الخطاب، حيث أجلى البقية الباقية منهم، والتي كانت تعيش في خيبر.
وسمّى هذا الإجلاء حشرا، لأنه أشبه بالحشر الموعود يوم القيامة، حيث وقع عن قهر، ولم يقع عن رغبة منهم.. ثم إنه كان إجلاء عامّا، لم يدع أحدا منهم، كما لم يدع حشر القيامة أحدا ممن في القبور.. ثم إنه من جهة ثالثة كان جماعيّا فوريّا، وليس جماعة جماعة، وزمنا بعد زمن.
فالحشر: يشير إلى القوة الضاغطة الحاشرة، التي تسوق المحشورين سوقا عنيفا، وتجمع أشتاتهم في دائرة واحدة، وتقيمهم على وجه واحد.. فهو والحشد بمعنى، ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ} [53: الشعراء] وقوله تعالى: {فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}.
أي فطلع عليهم قدر اللّه فيهم من حيث لم يقدّروا، فقد كانوا يحسبون أنهم من حصونهم في أمن من كل يد تنالهم، وخاصة يد النبي والمسلمين الذين كانوا يرون أنهم لن ينالوا منهم منالا أبدا، وهم في داخل هذه الحصون التي لا تنال.. فكان من تقدير الحكيم العليم أن يبطل حساب هؤلاء الأشقياء، ويفسد تدبيرهم، ويختل تقديرهم، فيكون النبي وأصحابه هم الذين تتداعى بين أيديهم هذه الحصون، ويخرج منها القوم كما تخرج الفئران من أجحارها، وقد أغرقها السيل الجارف!! وقوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} إشارة إلى ما كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى، لإبطال عمل هذه الحصون، فقد قذف اللّه سبحانه الرعب والفزع الشديد في قلوب المتحصنين بها، فبدت لهم هذه الحصون الحصينة وكأنها بيوت من زجاج أو ورق، فلم يكن منهم حين رأوا المؤمنين يحاصرونهم إلّا أن يستسلموا من غير قتال، أو اعتداد بتلك الحصون.
وقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} أي أن هذه الحصون التي كانت بمكان الإعزاز والإعجاب من نفوسهم، قد هانت عليهم، وخفت موازينها في أعينهم، بعد أن رأوا- بما امتلأت به قلوبهم من رعب- أنها لا تردّ عنهم عدوا، ولا تدفع مغيرا، فأخذوا يخربونها بأيديهم، ويفتحون معاقلها للمسلمين، كما تركوا للمسلمين أن يدخلوها عليهم، وأن يفتحوا مغالقها، ويطلعوا على مسالكها.. وهذا هو معنى خرابها، الذي يبدو في تعطيلها، وتعطيل وظيفتها التي أعدت لها.. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها} [114: البقرة] وقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} هو إلفات إلى هذا الحدث، وما فيه من دلالات على قدرة اللّه سبحانه، وعلى تدبيره المحكم الذي لا يغالب، وهذا ما لا يراه إلا أصحاب الأبصار النافذة إلى حقائق الأمور، وإلى مواقع العبرة والعظة منها.
وهذا يعنى أن اليهود في الجزيرة العربية كانوا يومئذ بين أمرين من أمر اللّه: إما الجلاء، وإما القتل والسبي.. وأن أحسنهم حظّا من كتب عليهم الجلاء.. وفى هذا إرهاص بالبقية الباقية من اليهود في المدينة، وأنهم إذا لم يجلوا عنها، عذّبوا في الدنيا بالقتل وبالسبي.. أما في الآخرة فلهم جميعا عذاب النار.
وهذا العذاب الأخروى ليهود الجزيرة العربية، إنما هو لكفرهم برسول اللّه، بعد علمهم بدعوته، والوقوف على معطيات رسالته، وشهودهم شواهد الإعجاز منها.. ولهذا، كان أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- الذين بلغتهم الرسالة النبوية- كانوا يخاطبون في القرآن الكريم على أنهم كافرون، كما يقول سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [1: 3 البينة] ومن هذا قوله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [70: آل عمران] قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
هو بيان للسبب الذي من أجله أنزل اللّه سبحانه ما أنزل من بلاء في الدنيا، وما أعد من عذاب في الآخرة- لهؤلاء القوم من بنى النضير، ومن على شاكلتهم.. إنهم شاقّوا اللّه ورسوله، أي كانوا على شقاق وخلاف للّه ولرسوله.. وإنه ليس لمن يشاقّ اللّه، ويحيد عن صراطه المستقيم إلا أن يلقى العذاب الشديد من اللّه.
{فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} لمن يشاقه، ويشاق رسوله.
هذا، وقد جاء التعليل للعذاب جامعا بين مشاقة اللّه ومشاقة رسوله في قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
ثم جاء الشرط الموجب للعذاب، بمشاقة اللّه وحده، دون رسوله في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
وذلك للإشارة إلى أن مشاقة الرسول، هى مشاقة للّه، سواء بسواء، إذ كان الرسول هو رسول اللّه، وكلماته التي يتلوها على الناس، هى كلمات اللّه.. فذكر الرسول مع اللّه، أولا، ثم الاكتفاء بذكر اللّه وحده ثانيا- هو تأكيد لهذا المعنى، وإقامته على التسوية بين مخالفة اللّه ومخالفة رسوله.. وكما يكون هذا في المعصية والخلاف، يكون في الطاعة والولاء.. كما يقول سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ} [80: النساء].
قوله تعالى: {ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ}.
اللينة: النخلة، وهى من اللّين، الذي يدل على الرخاء والنعمة، ولين العيش، إذ كانت النخلة نعمة طيبة، ورزقا كريما لأهل البادية، فأطلقوا عليها هذا الاسم، احتفاء بها، وإشارة بفضلها، كما سموا الخيل خيرا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام. {فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [32: ص].. يريد الخيل.
والخطاب هنا للمسلمين الذين حاصروا بنى النضير، الذين تحصنوا بحصونهم وأبوا أن يستسلموا، فاتجه المسلمون إلى قطع نخيلهم التي كانت تحيط بديارهم.
فلما استسلموا للمسلمين بعد هذا، وقع في نفوس بعض المسلمين ندم على أنهم قطعوا هذا النخل الذي صار إلى أيديهم، فجاء قوله تعالى هنا، مسرّيا عن المسلمين ومعزيا لهم في هذا الخير الذي فاتهم.. فما قطع من النخيل، أو بقي منه، فهو بما قضى به اللّه سبحانه وتعالى وإذن فلا يأس المسلمون على مافاتهم.. إذ كان ذلك عن إرادة اللّه سبحانه، وعن إذن منه.
ثم إنه لكى يرضى المسلمون بهذا القضاء، وليروا وجه الحكمة منه، فليعلموا أن ذلك إنما كان ليخزى اللّه به هؤلاء الفاسقين، وليذلّهم، وليريهم أن ما غرسوه بأيديهم، وبذلوا له جهدهم وأموالهم، قد استبدّت به يد المسلمين، وحصدته يد المنايا كما يحصد الموت أبناءهم بين أيديهم، دون أن يملكوا لذلك دفعا.
وفى هذا ما فيه من إذلال لهم، ومضاعفة للحسرة في قلوبهم.. فإذا كان المسلمون قد خسروا شيئا من هذا الرزق الطيب، فهو إنما هو الثمن الذي أدّوه لخزى أعدائهم وكتبهم، تماما كما يؤدّون مثل هذا الثمن بمن يقتل منهم في ميدان القتال، لقاء النصر على العدو!.


{وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الفيء لغة: ما نسخته الشمس من الظل.. والأصل فيه الرجوع إلى الشيء المتروك، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [226: البقرة].
والفيء: شرعا ما أفاء اللّه على المجاهدين من أموال الكافرين من غير قتال.. وفى هذا إشارة إلى أن ما في أيدى الكافرين من أموال، هى في حقيقتها أموال المؤمنين، إذ كانوا هم أولى بها، وأعرف بحق اللّه والعباد فيها.
فلما أخذها المؤمنون من أيدى الكافرين، أصبحت وكأنها فاءت، أي عادت إلى أهلها الذين هم أحق بها.
وقوله تعالى: {وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ.. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ} أي والذي أفاءه اللّه على رسوله من أموال بنى النضير، فإنكم- أيها المؤمنون- لم تسيّروا إليه خيلا ولا إبلا، ولم تقاتلوا عليه، إذ كان القوم قريبا منكم فمشيتم إليهم بأقدامكم من غير خيل أو إبل، وقد استسلموا لكم من غير قتال.
والوجيف: ضرب من السير السريع، فيه اضطراب للركاب من حركة عدو الحيوان الذي يركبه.. ومنه وجيف القلوب، أي اضطرابها، ومثل هذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ}.
(8: النازعات).
وهذا الخبر يشير إلى أمرين:
أولهما: أنه ليس للمؤمنين أن يحزنوا على ما قطعوا من نخل.. فإن ما بقي، فيه رضىّ لهم، كما أن فيما ترك القوم من ديار ومتاع، عوضا من هذا النخل الذي قطع.. وخاصة أن ما وقع لأيديهم قد جاءهم صفوا عفوا لم يوجفوا عليه بخيل ولا إبل، ولم يقاتلوا في سبيله.
وثانيهما: أن هذا المال، الذي لم يقاتل عليه المسلمون، لا ينطبق عليه حكم الغنائم، التي يكون للّه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، خمس ما غنموا، ويكون للمقاتلين أربعة الأخماس الباقية- فهذا المال الذي لم يقاتل عليه المسلمون، لا يقع تحت هذا الحكم، وإنما هو كله للّه وللرسول، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
أي أنه يكون في يد الرسول، أو يد ولىّ الأمر القائم على المسلمين، ينفقه في هذه الوجوه.
قوله تعالى: {وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} أي أن هذا النصر الذي وضعه اللّه بين أيديكم، هو من عند اللّه، لم تعملوا له بخيل ولا إبل، ولم تنالوه بقوة السلاح، ولكنه أتاكم بتأييد من اللّه سبحانه لرسوله، وتمكين لكم من السلطان والغلب على من يشاء من عباده.. فهكذا يؤيد اللّه سبحانه وتعالى رسله، وينصرهم، ويجعل لهم سلطانا على الناس، بما يضع في أيديهم من معجزات، وبما يمدهم به من جنود لا يعلمها إلا هو، تحارب معهم، وتلقى الرعب في قلوب أعدائهم.
فقوله تعالى: {يُسَلِّطُ رُسُلَهُ} أي يجعل لهم سلطانا.. فالتسلط هنا من السلطان، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ} [96: هود].. أي تسلط على فرعون، وقهر له.
قوله تعالى: {ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} هذه الآية معطوفة على الآية السابقة، ومقررة للحكم الضمنى، الذي أشار إليه قوله تعالى: {فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ}.
كما أنها تشير إلى إلحاق قرّى أخرى بهذه القرية، كما سيحدث ذلك لبنى قريظة.
فهذا الفيء الذي يفيئه اللّه على رسوله من أهل قرى اليهود، لا يقع تحت حكم الغنائم، وإنما هو كله في يد الرسول، يضعه في هذه المصارف التي أشارت إليها الآية الكريمة، والتي ستشير إليها الآيات التالية بعد ذلك.
وقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ} هو تعليل لحكم التصرف في الفيء، وأنه إنما جرى عليه هذا الحكم حتى ينال الفقراء والمساكين حظهم منه، وحتى لا ينتقل من يد الذين يملكون إلى يد الذين يملكون، فيصبح دولة بينهم، أي متداولا بين الأغنياء، على حين يظل الفقراء على فقرهم، ويقيم المحرومون على حرمانهم!! قوله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} هو إلفات للمؤمنين إلى ما ينبغى لهم من ولاء وطاعة للرسول، وتقبّل ورضىّ، بكل ما يقضى به النبىّ في المؤمنين، وخاصة وهم في مواجهة هذه الفتنة المطلة عليهم من المال الذي وضعه اللّه في يد الرسول.. فهناك كثير من الأعين ترنو إلى هذا المال، وكثير من القلوب تتلفت إليه، وإنه لن يعصم المسلم- من هذه الفتنة، إلا الإيمان الوثيق، والرضا المطلق، بكل ما يقضى به الرسول: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
.. فهذا هو حقّ الرسول على المؤمنين: الامتثال والطاعة من غير مراجعة، ولا توقف، أو ريبة.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
وعيد لمن تحدثه نفسه من المؤمنين بالخروج عن أمر الرسول، أو الضّيق به، فإن ذلك معناه الكفر، والانسلاخ من الإيمان.. وليس للكافرين إلا النار، هى حسبهم، وبئس المصير.
قوله تعالى.
{لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} هو معطوف عطف بيان على قوله تعالى: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أي أن هذا الذي أفاءه اللّه على رسوله من أهل القرى، هو للّه ولرسوله، ولذى القربى للرسول، ولليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وللفقراء المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا وينصرون اللّه ورسوله.. فكأنّ ما للّه ولرسوله ولذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، هم هؤلاء المهاجرون الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وكأن هذا الفيء الذي أفاءه اللّه على الرسول هو من أجل هؤلاء المهاجرين الفقراء، ليكون مواساة لهم في هذه الغربة، التي اختاروها ابتغاء مرضاة اللّه، وآثروا بها دينهم على أهليهم وأموالهم.
وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً} جملة حالية، تكشف عن الحال التي تلبّس بها هؤلاء المهاجرون، حين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وأنهم حين أخرجوا كانوا على حال يبتغون بها فضل اللّه ورضوانه، وينصرون اللّه ورسوله، ولم يكن إخراجهم عن حال أخرى تدعوا قومهم إلى إخراجهم من بينهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [40: الحج] ويجوز أن يكون قوله تعالى: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ}.
جوابا عن سؤال يتردد في خاطر النبي الكريم، بعد أن وضع اللّه سبحانه هذا الفيء بين يديه، وجعل ينظر فيما حوله إلى الفقراء الذين دعاه اللّه سبحانه إلى إعطائهم نصيبا من هذا الفيء.. فالفقراء كثيرون، فإلى من من هؤلاء الفقراء يمدّ يده بالعطاء؟
فكان جواب اللّه سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ... الآية} وفى إسناد فعل الخروج {أخرجوا} إلى غير الفاعل، إشارة إلى أنهم لم يخرجوا عن رغبة منهم في الخروج، وإنما أخرجوا إخراجا بيد القهر والعدوان.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} هو تنويه بشأن هؤلاء المهاجرين الأولين، وأنهم إنما كانت هجرتهم للّه ولرسوله، لا لابتغاء مغنم من مغانم الدنيا، أو متاع من متاعها! قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: هم الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين في مدينتهم، وهم الذين تبوءوا دار الهجرة، أي كانوا أهلها وسكانها قبل المهاجرين، وهم الذين تبوءوا الإيمان أي دخلوا فيه، وسكنوا إليه، واستظلوا بظله، قبل كثير من المهاجرين، لاكلّ المهاجرين.. وإنما عبر عن هذه الكثرة بما يفيد العموم في قوله تعالى: {تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تنويها بفضل الأنصار، وتغليبا لكثرة المؤمنين منهم على كثرة من آمن من أهل مكة قبل الهجرة.. {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي ولا يجد الأنصار في صدورهم شيئا من الضيق، أو الألم، أو الغيرة، لما أخذ المهاجرون من غنائم بنى النضير.. فقد جعل الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما أفاءه اللّه عليه من تلك الغنائم- جعلها في فقراء المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر منهم كانوا على حال ظاهرة من الفقر.. وبهذا العطاء الذي ناله المهاجرون خفّ العبء عن الأنصار الذين كانوا يقاسمون إخوانهم المهاجرين ديارهم وأموالهم.
{وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} الإيثار: هو تقديم حاجة الغير على حاجة النفس، سخاء وتفضلا.. وهذا لا يكون إلا من نفوس مهيأة للتضحية.. والإيثار: ضد الأثرة، وهى حب النفس حبّا يعميها عن كل شىء، فلا يرى المرء إلا ذاته، ولا يعمل إلا من خلال هذه الذات، وما يحقق لها من نفع ذاتى لا يشاركها فيه أحد.
والخصاصة: الحاجة، والفقر الذي يعجز الإنسان عن إدراك الضروري من مطالب الحياة.
أي أن هؤلاء الأنصار، من طبيعتهم السماحة والبذل، وإيثار إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، والنزول لهم عن الطيب الأكثر مما في أيديهم، مع حاجتهم إليه.. وهذا هو الفضل على تمامه وكماله، حيث يجىء عن حاجة، ولا يجىء عن غنّى وسعة.. وإذن فهم لا يجدون في صدورهم حاجة من الحسد لما أصاب إخوانهم من خير، بل إنهم ليجدون في هذا سعادة ورضى لهم.. فإن النفوس الطيبة الكريمة ليسعدها أن تجد الخير يغمر الحياة، ويعمر البيوت، ويشيع في الناس الغبطة والرضا.. أما النفوس اللئيمة الخبيثة، فإنه يزعجها ويسوءها أن ترى خيرا يصيب أي أحد من الناس، ولو كان من أقرب المقربين إليها.
{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {يوق}: أي يحفظ، ويحمى وشح النفس، بخلها، وحرصها.
وفى التعبير عن السلامة من شح النفس وبخلها وحرصها، بلفظ الوقاية منه- للإشارة إلى أن الشح عدو راصد، يتربص بالنفس الإنسانية في أية لحظة يغفل فيها الإنسان عن حراسة نفسه منه، فإذا غفل الإنسان عن هذا العدو دخل على نفسه، واستولى عليها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} الذين جاءوا من بعدهم، هم المؤمنون الذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار، في مختلف الأزمان والأوطان.. فالمؤمنون جميعا كيان واحد، وأنه إذا كان للمهاجرين والأنصار وضع خاص في الإسلام، ومنزلة عالية في المسلمين- فليس ذلك بالذي يعزلهم عن المؤمنين في أي زمان ومكان، وليس ذلك بالذي يعزل أي مؤمن عنهم.. فالمؤمنون جميعا إخوة في اللّه، ومجتمع واحد في دين اللّه.. على امتداد الأزمان والأوطان.
والآية معطوفة على الآية السابقة: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} والتي هى معطوفة على قوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي كما أن المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا وينصرون اللّه ورسوله- هم الصادقون في إيمانهم، فكذلك مثلهم في صدق الإيمان، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، وهم الأنصار.. وكذلك مثل هؤلاء وأولئك، الذين جاءوا من بعدهم من المؤمنين، وسلكوا سبيلهم، وامتلأت قلوبهم بهذه العواطف والمشاعر من الحب والإخاء والمودة للمؤمنين جميعا.. وأنه إذا كانت هجرة المهاجرين إلى الأنصار قد جمعت بين المهاجرين والأنصار على الحب والمودة والإخاء، فجعلت منهم تلك الهجرة أسرة واحدة، يقتسم أفرادها السراء والضراء فيما بينهم- إذا كانت الهجرة قد عقدت بين المؤمنين هذا العقد الموثّق- فإنه ليس من الضروري أن تكون هناك هجرة كتلك الهجرة، حتى ينتظم المؤمن في هذا العقد، ويأخذ مكانه فيه، بل إنه من الممكن دائما وفى أي زمان ومكان، أن يهاجر المؤمن بقلبه ومشاعره إلى إخوانه المؤمنين، وإنه لمن الممكن دائما وفى كل زمان ومكان، أن يجعل المؤمن قلبه ومشاعره مهاجرا إلى المؤمنين، فإذا هاجر إليهم، وجد في ظلهم الحب والرحمة والإخاء، وإذا هاجروا إليه نزلوا من قلبه، ومشاعره منزل الإعزاز والإكرام.
وبهذا يستطيع المؤمن أن يجمع بين الهجرة والنّصرة، فيكون من المهاجرين، ويكون من الأنصار.. وذلك إنما يكون حين يفتح قلبه، لكل مؤمن، ويخلط مشاعره بكل مؤمن.. فإن كان فقيرا، وجد لفقره عندهم غنى وإن كان ضعيفا وجد لضعفه فيهم قوة.. وإن كان غنيّا، وجد فقيرهم من غناه، غنىّ، وإن كان قويا وجد ضعيفهم من قوته قوة.
فهذا هو المؤمن، الذي يدخل مع المؤمنين الداخلين في قوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ} إشارة إلى تلك الوسيلة التي يتوسل بها المؤمنون اللاحقون، إلى أن ينتظموا في سلك المؤمنين من المهاجرين والأنصار.
ذلك أنه إذ لم تكن هناك هجرة بعد الفتح، كما يقول الرسول الكريم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن نيّة وجهاد»- فإنه بهذه المشاعر التي يرتبط بها المسلم بالمسلمين جميعا، وبهذا الدعاء الذي يدعو به، لإخوانه الذين سبقوه بالإيمان- بهذه المشاعر، وبهذا الدعاء، يكون قد بذل من ذاته شيئا، وقدّم لإخوانه خيرا، واقتسم معهم ما يدعو اللّه به من رحمة ومغفرة، وبهذا أيضا يكون أشبه بالأنصار الذين آووا المهاجرين، واقتسموا معهم أموالهم وديارهم.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} إشارة أخرى إلى أنه إذا لم يكن من المؤمن وصلة من مال أو دعاء بخير، يصل به إخوانه المؤمنين، فلا أفلّ من أن يخلى قلبه من الغلّ، والحسد، والحقد والبغضة، لإخوانه المؤمنين.
فإذا لم يستطع أن يوصّل إليهم شيئا من الخير، فليمسك يده ولسانه، عن أي شر أو أذّى، يلحق بمسلم من جهته!.
وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه».
وفى جعل الغلّ في القلوب، إشارة إلى أن القلوب هى مستودع المشاعر، من حب أو بغض، ومن مودة أو جفاء.. وأن هذه المشاعر هى التي تتولد منها الأقوال والأفعال، ولهذا كان على المرء أن يحرس نفسه من الوساوس والخواطر السيئة، ولا يدع لها فرصة كى تتمكن منه، وتستقر في وجدانه، فإنها إن تمكنت منه، واستقرت في كيانه، كانت قوة عاملة في توجيه سلوكه، وتشكيل أعماله.
وأصل الغلّ، من الغلة والغليل، وهو ما يجده الإنسان في داخله من حرارة العطش، ومعناه هنا: العداوة والحقد، حيث تغلى الصدور، وتحترق القلوب بنار الحقد والعداوة.
وفى قوله تعالى: {رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} استدعاء لهاتين الصفتين الكريمتين من صفات اللّه سبحانه وتعالى، وهما الرأفة والرحمة ليستشعر بهما المؤمن مشاعر الرأفة والرحمة بإخوانه المؤمنين، فيؤثرهم ببعض ما عنده من خير، رأفة ورحمة بهم.


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لإيمان المؤمنين وولاء بعضهم لبعض، وإيثار بعضهم بعضا، في مشهد ومغيب، وفى حاضر، وماض، وآت.. إنهم جميعا أمة واحدة، وكيان واحد، يجمعه الإيمان، ويوحد بينه التوحيد- فجاءت هذه الآية وما بعدها لتكشف عن وجه أهل الضلال والنفاق، وعن الروابط الزائقة الواهية التي تربط بعضهم ببعض.
ففى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}.
فضح لهذا العهد الكاذب الذي قطعه المنافقون، للذين كفروا من أهل الكتاب، وهم اليهود الذين ما زالوا في المدينة كبنى قريظة، وبنى قينقاع، وبنى النضير الذي أجلاهم النبي عن المدينة، كما أشارت إلى ذلك الآيات في أول السورة.
والمنافقون، هم جماعة عبد اللّه بن أبى بن سلول، ومن انضوى إليه من أهل الضلال.
وهؤلاء المنافقون، كانوا قد بعثوا إلى اليهود بعد جلاء بنى النضير ألّا يستسلموا أبدا للنبى، وألا يخرجوا من ديارهم، وأنهم،- أي المنافقين- يد واحدة معهم على النبي والمسلمين، وأنه إذا اضطر هؤلاء اليهود يوما إلى الخروج، خرج هؤلاء المنافقون معهم، وأبوا أن يسمعوا لقومهم إذا دعوهم إلى البقاء معهم.. وهذا يعنى أنهم معهم أينما كانوا، فإذا كان خروج من المدينة خرجوا معهم منها، وإن كان قتال قاتلوا معهم.
وقدّم الإخراج على القتال، مع أن القتال هو الذي ينبغى أن يكون أولا، حتى إذا غلبوا على أمرهم أخرجوا- وذلك ليكشف عما في عهد هؤلاء المنافقين من كذب ونفاق.. فهم لو كانوا على ولاء حقا مع إخوانهم هؤلاء، لحرضوهم على القتال، ولقالوا لهم: ها نحن أولاء معكم بأسلحتنا إذا وقع بينكم وبين محمدا قتال.
ولكنهم جاءوا إليهم أولا بالأمر الذي لا يكلفهم شيئا أكثر من مجرد الكلام، وما أكثر الكلام، وما أرخصه في سوق المنافقين!! فبذلوا لهم القول في سخاء، وبلا حساب، قائلين: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً!!}.
ثم رأوا أن هذا القول الذي ألقوا به إلى أسماع إخوانهم الذين كفروا، هو مجرد كلمة عزاء، إذ ماذا يغنى القوم إن أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يخرج معهم المنافقون أو لا يخرجوا؟ وهنا يتنبه المنافقون حين نظروا في وجه هذا الكلام الذي ألقوا به إلى القوم، وحين رأوا أن القوم لم يمسكوا بشىء منه، وأنهم قد أخرجوا من ديارهم، أو هم على طريق الإخراج من الديار.
حين رأى المنافقون ذلك ألقوا إليهم بهذه القولة الزائفة المنافقة أيضا: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ!}.
ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن فضح كذبهم ونفاقهم بقولهم أول الأمر: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} تعقيبا على هذه الوعود الكاذبة التي يبذلها المنافقون لإخوانهم من بنى النضير.
وهو معطوف على محذوف تقديره إن هذا القول يشهد بكذب المنافقين وينادى عليهم بأنهم كاذبون، واللّه يصدق هذه الشهادة، ويشهد بأنهم لكاذبون.
وفى قوله تعالى: {يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} إشارة إلى هذه الأخوة التي يجمعهم عليها هذا النسب، من الكفر، والضلال.
وهذه جملة حالية، تمثل الحال التي عليها هؤلاء المنافقون، وقد دعى النبي إلى النظر إليهم وهم على تلك الحال التي يقولون فيها لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ما يقولون.. أي انظر إليهم وهم في تلك الحال التي يقولون فيها هذا القول الكاذب المنافق.
وقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
هو بيان لما أشار إليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
ومن كذبهم أنهم لن يكون منهم وفاء بهذا العهد الذي عاهدوا عليه القوم.
فلو أخرج حلفاؤهم ما خرجوا معهم، ولو قوتلوا ما قاتلوا إلى جانبهم ولو قاتلوا إلى جانبهم لما صبروا على القتال، ولما ثبتوا في ميدان المعركة، لأنهم إنما يقاتلون بأجسامهم، لا بقلوبهم.. فإذا اشتد البأس ولوا الأدبار، وكانت الدائرة عليهم وعلى حلفائهم.
وقد جاء هذا الخبر مؤكدا بالقسم من اللّه سبحانه وتعالى، وما يخبر به اللّه سبحانه، لا يحتاج في الدلالة على صدقه، إلى توكيد، ولكن هذا الخبر يواجه المنافقين الذين لا يقدرون اللّه حق قدره، فكان توكيده إشارة إلى ما في قلوبهم من مرض، وأن أخبار اللّه سبحانه تقع من نفوسهم موقع الشك والارتياب.
وهذه الآيات من أنباء الغيب، التي كشفت الأيام فيما بعد عن تأويلها على الوجه الذي أخبرت به، والتي سجل بها التاريخ معجزة ناطقة بأن هذا القرآن من لدن عليم خبير.
فلقد نزلت هذه الآيات عقب إجلاء بنى النضير، ولم يكن هناك ما يشير إلى أن شيئا ما سيحدث بين النبي وبين من بقي من اليهود في المدينة، وأنه إن حدث شيء فلم يكن أحد يتصور الصورة التي سيكون عليها.
وقد قلنا إن في قوله تعالى في أول السورة: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} إرهاصا بأن هذا الحشر الذي بدىء به بإخراج بنى النضير، سيتبعه مثله من الحشر، لغيرهم من إخوانهم اليهود.
ولكن ما في هذه الآيات لم يكن مجرد إرهاص، وإنما كان عرضا لأحداث تجرى، وإخبارا مسبّقه بما ستتمخض عنه هذه الأحداث من وقائع محددة، كأنها قد وقعت فعلا.
ففى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، كان المنافقون- وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبى بن سلول- قد مشوا إلى بنى قريظة وغيرهم من يهود المدينة، وأنذروهم بما يمكن أن يفعل بهم محمد، كما فعل ببني النضير، وأعطوهم هذا العهد بأنهم لن يقفوا معهم هذا الموقف الذي وقفوه من بنى النضير، والذي أخذوا فيه على غرّة، دون أن تكون هناك فسحة من الوقت، يدبرون فيها أمرهم، ويأخذون له العدة.
أما الآن، فإن في الوقت متسعا، وإن عليهم جميعا أن يأخذوا حذرهم، وأن يستعدوا لما يمكن أن تأنى به الأيام بينهم وبين محمد.
ولقد جاءت الأيام بما ينطق بصدق آيات اللّه، وبما يخزى اليهود ويذلّهم ويفضح نفاق المنافقين وكذبهم. فلقد أخرج بنو قريظة وما خرج المنافقون معهم، وما قام أحد من هؤلاء المنافقين لينصرهم، وليدفع يد النبي والمسلمين عنهم، وقد قتل رجالهم، وسبى نساءهم وأطفالهم.
قوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
أي إنكم أيها المؤمنون أشد رهبة، وخشية في صدور هؤلاء المنافقين، وإخوانهم اليهود- أشد رهبة وتخويفا لهم من اللّه.. إنهم جميعا يخافونكم ويخشون بأسكم، ولا يخافون اللّه، ولا يخشون بأسه.. وذلك لأنهم قوم لا يفقهون، أي في غباء وجهل، ولو فقهوا لعلموا أن اللّه سبحانه هو أولى بأن يخاف منه، ويخشى من الاعتداء على حرماته.
إنهم لا يؤمنون باللّه، ولا يعلمون ماله سبحانه من علم وقدرة، فهم لهذا، لا يستحضرون عظمة اللّه، ولا يشهدون وجوده، وإنما الذي يشهدونه هو الذي يرونه رأى العين، والذي تتمثل لهم شخوصه.. فهم لهذا يخشون الناس، ولا يخشون اللّه!.
قوله تعالى: {لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
هو بيان لقوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}.
أي أن هؤلاء اليهود لما ركبهم من جهل، قد نزلوا إلى مرتبة الحيوان الذي لا يخاف إلا اليد التي تمسك بالسوط يلهب ظهره.. فهم لهذا أجين الناس، وأحرصهم على الحياة. لا يواجهون الأخطار، ولا يقدمون على لقاء عدوهم إلا مخالسة، وقد تحصنوا في أجحارهم، واختفوا وراء الجدران، شأنهم في هذا شأن الحيات التي تتحصن في أجحارها، ترصد أعداءها من داخلها، فإذا رأت فرصة سانحة في عدو لها أطلت برأسها، ثم نفثت فيه سمومها، وعادت سريعا تدفن نفسها في جحرها.
والصورة تمثل حال اليهود في كل زمان.
إنهم لا يقاتلون أبدا في ميدان حرب، إلا إذا كانوا متحصنين في حصون يضمنون معها ألا ينال العدوّ منهم شيئا.. ولهذا قامت قراهم قديما وحديثا على نظام الحصون، بحيث إذا دهمهم عدوّ دخلوا هذه الحصون، واحتموا بها، وعاشوا فيها زمنا، بما جلبوا إليها من سلاح ومتاع.. حتى ييئس العدوّ منهم، إذا طال الحصار، أو يجدوا سبيلا إلى إيقاع الفتنة في صفوفه.. فإن لم يكن هذا أو ذاك، كانت أمامهم فرصة لشراأ أنفسهم من عدوهم، بالمال أو بأى ثمن بطلبه منهم.
هكذا اليهود قديما وحديثا.. ونحن نشهد اليوم في حربهم معنا، أنهم لم يخرجوا للقتال إلا وقد اتخذوا من عدد الحرب حصونا تحميهم من القتل، وتدخل في قلوبهم الطمأنينة إلى أنهم في مأمن من أن ينال العدوّ منهم!.
إنهم لا يحاربون، ولكن الأسلحة التي مكناهم الأمريكان منها، هى التي تحارب.
ولهذا جاء قوله تعالى: {لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً} جامعا بين اليهود جميعا، في كل زمان ومكان، على تلك الصفة التي وصفهم اللّه سبحانه بها، وأنهم لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر.. كذلك كان سلفهم، وكذلك يكون خلفهم.
قوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} إشارة إلى حال اليهود فيما بينهم، وأنهم أشد الناس شراسة، وأقساهم قلبا، وأقدرهم على الفتك، حيث يقاتل بعضهم بعضا، ويفتك بعضهم ببعض.. إنهم حينئذ يكونون أشبه بالحيات ينهش بعضها بعضا، ويفتك بعضها ببعض، فهى أعلم بمواطن الضعف في أبناء جنسها، وهى لهذا أشد جسارة، وأكثر إقداما من غيرها على هذا نفث السمّ الكامن فيها.
وقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}.
أي تبدو حال هؤلاء اليهود في ظاهرها، أنهم جمع واحد، ويد واحدة.
هكذا هم فيما يضمهم من مكان.. أما قلوبهم فهى أشتات موزعة، تذهب في أودية مختلفة، كل قلب منها يذهب في واد غير الذي يذهب فيه صاحبه.
وهذا يعنى أن كل واحد منهم إنما ينظر إلى نفسه، وبهم بسلامتها قبل كل شىء.. لا يعنيه أن يسلم أصحابه أو يعطبوا.. إنهم في ساعة الخطر أشبه بالغنم يهجم عليها ذئب، فتتطاير هنا وهناك كما يتطاير الشرر.
وقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
أي لا عقل لهم، ولو عقلوا لعلموا أن السلامة في اجتماعهم عند الخطر، وفى لقائهم له كيانا واحدا، وأن تفرقهم هو الذي يجعل يد الخطر مبسوطة عليهم متمكنة منهم جميعا.. فهم في هذا الفرار الذي يطلب به كل واحد منهم السلامة لنفسه، إنما يردون به موارد الهلكة جميعا.
ولهذا جاء وصفهم هنا {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} على حين جاء وصفهم في مقام خوفهم من الناس أشد من خوفهم من اللّه: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
إذ كان العقل- مجرد العقل- كاف في تقدير السلامة من الخطر، وأن السلامة رهن بالاجتماع لا بالتفرق، حتى إن بعض الحيوانات لتهتدى إلى هذا بغريزتها، فإذا واجهها خطر واجهته جبهة واحدة، لم يفر منها أحد.. أما في مقام الخشية للّه، فإنها لا تكون عن عقل- مجرد عقل- بل لا بد من عقل، معه فقه وعلم.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
أي سيكون مثل هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب- وهم بنو قريظة- سيكون مثلهم مثل الذين من قبلهم قريبا، وهم بنو النضير الذين لم يمض زمن بعيد على ما وقع لهم، وأن بنى قريظة سيذوقون مثل ما ذاق بنو النضير من خزى وهوان، بل ولهم فوق هذا {عَذابٌ أَلِيمٌ} وهو القتل والسبي، اللذان نجا منهما بنو النضير الذين كان حكم اللّه فيهم هو الجلاء، كما يقول سبحانه. {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ}.
وفى قوله تعالى: {قريبا} إشارة إلى قرب الزمن بين إجلاء بنى النضير وبين ما سينزل ببني قريظة.. وذلك أن ما حل ببني قريظة من قتل وسبى كان بعد غزوة الأحزاب، حيث إنه ما كاد الحصار الذي ضربه المشركون على المدينة حول الخندق- ما كاد هذا الحصار ينتهى، وينقلب المشركون مدحورين خائبين- حتى دعا النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أصحابه إلى حرب بنى قريظة، قائلا: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلّا ببني قريظة»، الذين ما إن علموا بهذا حتى دخلوا في حصونهم، وأغلقوها دون المسلمين، فحاصرهم النبي وأصحابه أياما، حتى رهقهم الحصار، وبعثوا إلى النبي يطلبون إليه أن يرضوه بما شاء منهم، فلم يقبل منهم إلا أن ينزلوا على حكمه أو حكم أحد أصحابه، فرضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري الذي كان حكمه فيهم أن يقتل كل قادر على حمل السلاح من ذكورهم، وأن يسبى النساء والأطفال.. وأن تقسم الأموال.. فأمضى الرسول هذا الحكم فيهم.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ}.
أي أن مثل المنافقين مع إخوانهم هؤلاء من اليهود، كمثل الشيطان، الذي يدعو الإنسان إلى الكفر، فيستجيب له، ويتقبل دعوته، ويأخذ بنصيحته، حتى إذا كفر هذا الإنسان، ولبس الكفر ظاهرا وباطنا، وأحاطت به خطيئته، وحلّت به النقمة- تركه الشيطان لمصيره، ونفض يديه منه، وتبرأ من الجناية التي جناها عليه، وتنكر له، بل ورماه بالجهل والغفلة، ليزيد في آلامه وحسرته، وقال له: {إنى أخاف اللّه رب العالمين}.
وبهذا يريه أنه قد أضله، وخدعه، وصرفه عن اللّه، وعن الخوف منه، على حين أنه هو لم يصرف عن اللّه، وعن خشيته والخوف منه..!!
والسؤال هنا: ماذا يريد الشيطان بقوله: {إنى أخاف اللّه رب العالمين}؟
وهل هو صادق فيما يقول؟ وإذا كان صادقا فكيف يتفق هذا مع دعوة غيره إلى الكفر باللّه والمحادة للّه؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن الشيطان يعلم ما للّه سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه على خوف من جلال اللّه وقدرته، ولكنه- وقد غلبت عليه شقوته، وأعماه حسده لأبناء آدم وعداوته لهم- ذهل عن هذا، في سبيل الانتقام لنفسه، وما يحمل للإنسان من عداوة وحسد، لما كان من تكريم اللّه لآدم، وأمر الملائكة بالسجود له، واستعلاء إبليس واستكباره عن أن يكون من الساجدين، فلعنه اللّه وطرده من عالم الملائكة.. فخرج بهذه اللعنة، وهو على عزيمة بأن ينتقم من آدم ومن ذريته، ولو كان في ذلك هلاكه!! وكم من الناس من يعلم الحق ويأخذ نفسه بخلافه، ويعرف الطريق القويم، ويسلك المعوج؟. وهل كان موقف المشركين من النبي إلا عن حسد وكبر واستعلاء؟ إنهم كانوا يعرفون صدق النبي، ومع هذا فقد بهتوه، وكذبوه، وأبوا أن يقبلوا هذا النور الذي بين يديه، وآثروا أن يعيشوا بما هم فيه من عمى وضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
(33: الأنعام) وفى هذا التشبيه، يمثل المنافقون دور الشيطان، فهم يعرفون طريق الحق ويتجنبونه، وهم يزينون الشر لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، ويدعونهم إلى المحادة للّه ولرسوله، ويشدون ظهرهم في كيدهم للنبى وخلافهم له.
حتى إذا وقعت الواقعة بهم، نظر إليهم هؤلاء المنافقون نظر الشيطان إلى صاحبه الذي استجاب له، وأروهم أنهم لا يستطيعون أن يخفّوا إلى نجدتهم، وأنهم يخافون النبي والمسلمين، كما يخاف الشيطان اللّه رب العالمين.. وهنا نذكر قول اللّه للمؤمنين عن المنافقين: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}.
ففى هذا التشبيه ثلاثة أطراف.. الشيطان، والإنسان الذي أضله الشيطان، واللّه، الذي يخافه الشيطان.
وفى مقابل هذه الأطراف: المنافقون، وإخوانهم اليهود، والنبي وأصحابه الذين يخافهم المنافقون.
قوله تعالى: {فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ}.
تلك هى عاقبة الشيطان وصاحبه.. لقد هلك الشيطان، وهلك معه من استجاب له.. وتلك هى عاقبة المنافقين، وإخوانهم من اليهود.. إنهم جميعا إلى النار خالدين فيها.. وذلك جزاء الظالمين.. لا جزاء لهم إلا جهنم وبئس المصير.

1 | 2